Project
مستغَلة
تحريك رقميّ بدقة 4K، مدة 00:7:39 دقائق.
"مستغَلة" هو مشروع يتناول الاستثمار المفرط لأشجار الأرز اللبناني (واسمه العلميّ: "سِدرَس ليباني") واستهلاكه على أيدي مختلف الحضارات عبر التاريخ. يعود تاريخ إزالة غابات الأرز في جبل لبنان إلى زمن الكنعانيين القدماء، الذين قاموا بتقطيع أشجار الأرز وبيعها للشعوب المجاورة. في مصر القديمة وبلاد ما بين النهرين، اسُتخدم الأرز اللبناني في بناء القصور والمعابد والسفن والأثاث والمقابر، واسُتخدم الراتنج الصمغيّ منه للأغراض الطبية والاحتفالية ومنها التحنيط. في المرتفعات اللبنانية، استمرت إزالة الغابات إبان المستوطنات الأولى للدروز والموارنة، الذين أزالوا مساحات الغابات لإفساح المجال أمام المنازل والمزارع. أُزيل المزيد من الأشجار على أيدي الإمبراطوريتين العثمانية والبريطانية تتالياً، اللتين استخدمتا أخشاب الأرزة اللبنانية لبناء سكك الحديد وغيرها من البنى التحتية. وعملياً في يومنا هذا، حماية غابتَي الأرز اللبناني الأكثر زيارةً – محمية الشوف المحيط الحيوي وأرز الرب – تعمل كشكل من أشكال "الغسيل الأخضر" لتبييض وجه جرائم زعماء الفصائل الذين أعلنوا أنفسهم حراساً للأرض في أعقاب الحرب الأهلية اللبنانية.
موردٌ تتهافت عليه الحضارات عبر العصور
في بداية العصر الهولوسيني، عاشت أشجار الأرز اللبناني فوق جبال الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط، مزدهرة في غابات كثيفة كانت تغطي جبل لبنان وما وراءه. خصائصه البيولوجية المميزة، كمقاومته للتحلل وغزو الحشرات، جعلته مورداً ثميناً للحضارات القديمة. كانت تجارة أشجار الأرز طيلة آلاف السنوات لاستخدامه خشباً لبناء المعابد والقصور والسفن والمنازل، كما اسُتخدم الراتنج الصمغيّ منه للأغراض الطبية والاحتفالية وفي التحنيط. إلا أن التسليع المستمر هذا أدى إلى اختفاء أشجار الأرز اللبناني تقريباً في موطنه الأصلي، ليقتصر على أحراش متناثرة، محصورة الآن في محميات طبيعية.
التجارة والاستغلال المبكران
أقدم تقطيع موثق لأشجار الأرز على نطاق واسع يعود إلى الفينيقيين، الحضارة اللبحرية التي ازدهرت على طول الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط. اشتهر الفينيقيون بتأسيس بعض أوائل المدن-الدول وشبكات التجارة البحرية، واستغلوا شجر الأرز كسلعة ثمينة. شُحنت أخشاب الأرز عبر البحر الأبيض المتوسط إلى المغرب وإسبانيا وما وراءهما. وبينما سهّلت هذه التجارة نمو "المدن-الدول" الفينيقية، إلا أنها كانت بداية الاستنزاف والاستغلال الممنهج للأرز، مما حوّل غابة كانت غزيرة في الماضي إلى موردٍ للطموح البشري.
في بلاد ما بين النهرين، واصلت الإمبراطورية الآشورية الحديثة إرث استغلال الأرز. ففي عهد الملك آشور ناصربال الثاني، بات خشب الأرز مرادفاً للفخامة المعمارية، إذ استُخدم في بناء القصور الضخمة والمباني المتدرجة. أرّخت النصوص المنقوشة من تلك الحقبة استخدام "سِدرس ليــباني" في صناعة الأثاث والمنحوتات والنقوش الزخرفية، كاشفةً عن عمق اندماج الأرز في فن وثقافة بلاد الرافدَين هذه.
وسّع المصريون القدامى نطاق استخدام الأرز، مستخدمينه لأغراض عملية وشعائرية. بعد غزوهم للأراضي الفينيقية، تمكن المصريون من الوصول المباشر إلى غابات الأرز، مستخدمين الخشب لبناء المعابد والأضرحة. لعب راتنج الأرز دوراً حاسماً في التحنيط، إذ حافظت خصائصه المضادة للبكتيريا والفطريات على الجثث لآلاف السنين. وقد أبرز هذا الارتباط المقدس أهمية الأرز في المجتمع المصري، بينما كان يساهم في استنزافه بشكل متسارع.
إزالة الغابات في المستوطنات المحلية
في المرتفعات اللبنانية، واصلت المجتمعات الدرزية والمسيحية استغلال الأرز. فخلال إنشاء القرى والمزارع، أُزيلت مساحات شاسعة من غابات الأرز لإفساح المجال للمستوطنات. واستُخدم الخشب وقوداً لتدفئة المنازل وحفظ الطعام وبناء المساكن. إن الاستخدامات المنزلية هذه، وإن كانت أصغر حجماً من المشاريع الاستعمارية، قد فاقمت الضرر، مما زاد من تشتيت موطن الأرز.
الإزالة الإمبريالية للغابات: العثمانيون والإمبراطورية البريطانية
بلغ استغلال الأرز مستويات صناعية في عهد الإمبراطورية العثمانية. ففي أوائل القرن العشرين، أمر السلاطين العثمانيون بإزالة غابات الأرز على نطاق واسع لبناء شبكات القطارات، منها سكة حديد الحجاز التي ربطت دمشق بالمدينة المنورة. ولم يقتصر استخدام خشب الأرز على مد السكك، بل استُخدم أيضاً كوقود للقطارات والآلات. وامتدت جهود العثمانيين في إزالة الغابات إلى خط سكة حديد حلب-بغداد، مما أدى إلى تناقص أعداد أشجار الأرز في لبنان. أما إبان الانتداب البريطاني على فلسطين، فقد واصلت الطموحات الاستعمارية تدمير الأرز. فاستخدم البريطانيون الشجرة على نطاق واسع في بناء سكة حديد حيفا-بيروت-طرابلس، وهي شبكة إستراتيجية للبنى التحتية التجارية والعسكرية. رغم المبادرات الرمزية، كتكليف الملكة فيكتوريا ببناء جدار حجري واقٍ يحيط غابة أرز الرب، إلا أن السياسات البريطانية أعطت الأولوية لاستخراج الموارد الطبيعية على حساب الحفاظ على البيئة، مما عزز هيمنتهم في المنطقة على حساب بقاء الأرز والسكان الأصلانيين.
"الغسيل الأخضر" التضليليّ والاستغلال السياسي بعد الحرب الأهلية
لم ينتهِ استغلال الأرز اللبناني برحيل القوى الاستعمارية. ففي أعقاب الحرب الأهلية اللبنانية، غدت الشجرة أداةً لـ "الغسيل الأخضر" التضليلي للجرائم السياسية والإنسانية. وليد جنبلاط سياسي درزي بارز وزعيم حرب احتكر السيطرة على غابة أرز الشوف، فأسس محمية الشوف المحيط الحيوي تحت ستار الحفاظ على البيئة. رغم أن المحمية تُعد إحدى أكبر المحميات الطبيعية في لبنان، إلا أن إنشاءها شابته التناقضات. زُرعت الألغام الأرضية حول الأرز لتقييد الوصول إليها، مما حوّل جهود الحفاظ عليها إلى آلية للعزل والسيطرة العسكرية. وبالمثل، نصبت السياسية المسيحية اليمينية المتطرفة ستريدا جعجع نفسها حامية لغابة أرز الرب. إلا أن جهودها في الحفاظ على البيئة لاقت انتقادات واسعة النطاق باعتبارها محاولات للتعتيم على جرائم زوجها، سمير جعجع، ضد المدنيين اللبنانيين والفلسطينيين. كانت هذه الإجراءات انتقائية، إذ فضّلت الطوائف المسيحية وهَمّشت الطوائف الأخرى. في إحدى أبشع صور الاستغلال، أمرت ستريدا بتسوية تلة داخل غابة أرز الرب لبناء مسرح لمهرجان الأرز الدولي، وهو حدث موسيقي يتمحور حول هذه الشجرة. ترك هذا التجريف التدميري المنطقة قاحلة، عاجزة عن استضافة الأرز أو أي نوع آخر من النباتات.
صراع الأرز من أجل البقاء
غالباً ما تُخفي جهود حماية ما تبقى من أرز لبنان اليوم دوافع سياسية أعمق. محمية الشوف المحيط الحيوي وغابة أرز الرب، وهما من أكثر محميات الأرز زيارةً، تعملان كمواقع سياحية وتنمية اقتصادية أكثر منها مواقع ترميم بيئي حقيقي. يُشكّل الوصول والنشاط البشري غير المنظمين في هاتين المحميتين تهديداً إضافياً لقدرة الأرز على التجدد والاستمرار. رغم تصنيفها مناطق محمية، فإن هذه الغابات لا تزال تواجه تحديات ناجمة عن التغير المناخي وتشتت البيئات الطبيعية وغزو الأنواع.
يُجسّد صراع الأرز من أجل البقاء أزمات بيئية واجتماعية أوسع نطاقاً. فمن دور الشجرة كرمز مقدس إلى سلعة للتوسع الإمبراطوري، يعكس تاريخ الأرز سعي البشرية الصناعية نحو الربح والتوسع على حساب الحفاظ على المناطق الطبيعية. إن الأرز اللبناني الذي كان في يوم من الأيام عملاقاً مزدهراً في حوض المتوسط أمسى الآن متشتتاً معلقاً بخيط النجاة، عالقاً في حلقة مفرغة من الاستغلال.
قصة أرز لبنان هي قصة صمود ومأساة. طوال آلاف السنوات، قُدِّرت هذه الشجرة رمزاً للقوة والخلود والهوية الثقافية. بيد أن التبجيل هذا اقترن بعمليات استخراج وتدمير لا تكنّ ولا تستكين، أُخفيت عن الأنظار والحكايات الشعبية. من الإمبراطوريات القديمة إلى لبنان المعاصر، استُخدم الأرز أداةً للتجارة ورمزاً سياسياً ووسيلةً لترسيخ الهيمنة.
أُنجز هذا المشروع بدعم سخي من منحة الصندوق العربي للثقافة والفنون (2020).
"سلسلة شاشات: إيكُروف" من تنسيق إيان والاس، مساعد القيّم.
إياد أبو غيدا
الراوي
جمانة عباس، إياد أبو غيدا
إدارة المشروع
جمانة عباس، إياد أبو غيدا
الرسومات
إياد أبو غيدا
تحريك الرسومات
كريستين شيا
استشاري تحريك الرسومات
أم يوسف
ما بعد الإنتاج
إريك موندت
تسجيل الصوت
إريك موندت
تقنية التعليق الصوتي
جمانة عباس، فواز أبوغزالة، إياد أبو غيدا
الترجمة
ستيفن ديكر
تصميم الخط
جورج أبي سليمان، حمد المزيني، رزان الصفدي، نائل الشطي، مارلين أنطاكي، جوناثان داغر، أنيس فياض، جانو كوردزايا، كريستي لايوس، أنطوني خوري، وزارة الثقافة اللبنانية، ناتالي مغربيان، مهدي صباغ، رنا سمارة جبيلي، نجوى صياغة، جون يزبك، إيان والاس، مارك واسيوتا، أكسيل زمولي
شكر خاص